NewsToday

من يزيل الصدأ؟ | يزيد . نت

 

أبي الغالي …
 
ربما لم أشكرك بشكلٍ كافٍ على أشياء كثيرة منحتني إياها في هذه الحياة، وأشياء أخرى تصلني إلى الآن منك، و بعد موتك بسنوات!!

جلست اليوم معك، دون أن أجلس، ضممتُ بين أناملي أقلامًا تزينّت بالفضة، وعلاها الصدأ. بدأتُ في تلميعها، وأنا أتخيلك حين انتقيتها لي ذات زمن، وأهديتها لي، فأخذتها في حينها باستخفاف لا يليق بك، ولا بالهدية التي أدركتُ اليوم كيف انتقيتها لي بحب وعناية، وكيف كنت تراني أفضل مما أرى ذاتي.

كنت تراني “كاتبًا”، لذا اخترت لي على فترات متباعدة – دالة على إصرارك عليّ وقناعتك بي- أقلامًا أنتجتها إحدى المحلات المشهورة احتفاء ببعض الكتّاب: الأول كان “كافكا”، والآخر “تشارلز ديكنز”!

أحدهما كان غريب الأطوار، لم يتزوج، وذي مخيلة واسعة لا يخلو من اضطراب، والآخر تميّز أسلوبه بالدعابة البارعة، والسخرية اللاذعة، وكلاهما عرفت أعماله قبل أن أعرف اسمه . الأول في حكاية مصورة قرأتها في الطفولة عن شخص استيقظ من نومه، ووجد نفسه قد تحوّل إلى ذبابة، والثاني شاهدت أعمالاً سينمائية عديدة مقتبسة من اعماله، بدء من قصة “أوليفر تويست” في فيلم ” بصّ شوف سكر بتعمل إيه” المصري في السبعينات الميلادية، إلى روايته التي أحببت حين كبرت ” الآمال العظيمة”، والتي تحوّلت إلى اعمال سينمائية و تلفزيونية أكثر من مرة.
 
كلاهما توفى مبكرًا، الأول في الأربعينات من عمره، والآخر في الخمسينات، وأنت مضيت قبل أن أقرأك جيدًا، وقبل أن أطّلع على تفاصيل كثيرة، ضاع بي العمر و أنا منشغلٌ عنها بتحليل أمور كثيرة، وتكبير أمور صغيرة، ومرت السنوات على هذه الوتيرة إلى أن اختفيت!!
 
شكرًا على محبتك وعطائك، وانطباعك الجيد عني، وكل المشاعر النبيلة والجميلة التي شحّت في وقتنا هذا، ولم نعد نجدها، لقد علا الصدأ قلوب ومشاعر الناس اليوم بشكل لا تتخيله، بل وتعدّى ذلك إلى عقولهم التي باتت مليئة بالخراب الذي لا يراه أغلبنا، ولا يستشعر وجوده، بل يظن أنه أفضل تفكيرًا، وأحسن تدبيًرا، مع كامل الأسف.
 
مشاعرك يا حبيبي كانت متفرّدة، وأصيلة، مثل الشمس المتوهجة صيفًا، تحيط بنا، ونتأفف منها بصمت، ثم نشتاق إليها في برودة الشتاء ونفتقدها ، مثل النسمات التي تعبر دون أن نكترث لها، يقينًا منّا بعدم انتهائها، ومع هذا تغيب، و في لحظات اختناقنا مع تبدّل الجو نستذكرها بشجن، و نحَنُّ لها.
 
هو الحنين يا أبي الذي لا يفضي إلى شيء، هو الفقدان الذي يتكاثر بصمت، هو الموت الذي يقطف أرواحًا عديدة أحببتها، هو المرض والخذلان، وهي الحياة كما أخبرتني، ولله الحمد.
 
كُنت تُخبرني في عزّ مرضك و وعيك ألا أقلق، فلا شيء جديد في الحياة، وهي كذلك منذ بدء الخليقة، والمكتوب سوف يأتي، والأوقات سوف تمضي، فاغتنم لحظاتك، واستمتع بحياتك و عش! 
 
كنت تعني بكلمة “عش” أن أشعر بكل ما حولي، و أستمتع به، حتى لو كان حزنًا يتبعه فرح ، أو ضيقًا يعقبه نجاة، وأن أكون ممتنًا راضياً؛ لأني لست وحدي، ” فالله هنا و معنا “.
 
كنت تعي أنّ وجود الشقاء لا يعني انتهاء السعادة، بل بالعكس قد يجعلنا أكثر امتنانًا لحدوثها، كنتَ مع المحاولة، والتكيّف، وحبّ الحياة، والاستمتاع بها إلى النهاية!
 
شكرًا لكل ما تركته بداخلي، وشكرًا لنظرتك الإيجابية تجاهي، وللأقلام التي أضاءت مسائي، وكتبتُ بأحدها هذه السطور، وإلى أن نلتقي دمت بخير أينما كنت.

كتبتها و انا استمع لهذه المقطوعة و على مكتب اشتراه لي ابي منذ ٢٤ عام .

~ بواسطة يزيد في جويلية 6, 2023.

Source link

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button